طفوله "رأفت الهجان"
ستلاحظ فى جميع فصول قصه "رأفت الهجان" أن الأقدار تدفعه منذ اللحظه الأولى , وتعدة منذ نعومه أظافرة ليصبح أشهر جاسوس مصرى تم زرعه فى قلب الكيان الإسرائيلى , جاسوس إستطاع الحصول على أهم المعلومات وأكثرها سريه ومن مصادرها الشخصيه ليصبح الأكفأ والأجدر وواحدا من أعلام عالم المخابرات السريه فى العالم أجمع .
وقد يدهش البعض إن علم أن أشهر جاسوس هذا ولد فى مدينه "دمياط" فى "جمهوريه مصر العربيه" فى 1 - 7 - 1927 وكان والدة يعمل كتاجر فحم بالجمله ووالدته ربه منزل من أسرة مرموقه وكانت والدته تجيد اللغتين الإنجليزيه والفرنسيه , وهنا نجد أن القدر قد كتب كلمته منذ اللحظات الأولى فى تربيه "رفعت الجمال" وهو الإسم الحقيقى لـ"رأفت الهجان" ونجد أنه تعلم اللغه الإنجليزيه والفرنسيه فى إحدى المدارس الخاصه , وأجادهما وسيكون ذلك مفيدا له فى حياته التجسسيه وكأنما تعدة أقدارة ليكون جاسوسا منذ تفتحت عيناة على الدنيا .
وبعد ذلك بسنوات وتحديدا فى 1936 توفى "على سليمان الجمال" والد "رفعت الجمال" وأصبح "سامى" الأخ الغير شقيق لـ"رأفت" هو المسئول الوحيد عن المنزل , وكانت مكانه "سامى" الرفيعه , وعمله كمدرس لغه إنجليزيه لأخو الملكه "فريدة" تؤهله ليكون هو المسئول عن المنزل وعن إخوته بعد وفاة والدة , وبعد ذلك إنتقلت الأسرة بالكامل إلى "القاهرة" عاصمه "جمهوريه مصر العربيه , ليبدأ فصل جديد من حياة هذا الرجل الذى عاش فى الظل ومات فى الظل ولم ينتظر الجزاء إلا من الله سبحانه وتعالى ..
وبعد ذلك بدأت مرحله شباب " رأفت الهجان " والتى ستكون حافله بالعديد من المفاجأت المثيرة .
________________________________________
شباب "رأفت الهجان"
شخصيه "رفعت" لم تكن شخصيه مسئوله , كان طالبا مستهترا لا يهتم كثيرا بدراسته , لذا رأى إخوته ضرورة دخوله لمدرسه التجارة المتوسطه ورغم إعتراض "رفعت" على إلحاقه بمثل هذة النوعيه من المدارس إلا أننا نجد أن القدر يرسم - وبحرفيه شديدة - الخطوط العريضه لحياته المستقبليه ففى المدرسه بدأت عيناة تتفتحان على البريطانين وإنبهر بطرق كفاحهم المستميت ضد الزحف النازى , ولأن من يحب شعبا من الشعوب يسعى جاهدا لتعلم كل شىء عنهم , نجد "رفعت" قد تعلم الإنجليزيه بجدارة , ليس هذا فقط بل أيضا تعلم أن يتكلم الإنجليزيه باللكنه البريطانيه وكم سيكون هذا مفيدا له فى المستقبل البعيد .
وكما تعلم "رفعت" الإنجليزيه بلكنه بريطانيه تعلم الفرنسيه بلكنه أهل باريس , وإن كان تعلم البريطانيه إعجابا لشعبها نجدة تعلم الفرنسيه إعجابا بمعلمه فى المدرسه ولم يكن يعلم معلمه فى المدرسه وهو يعلمه كيفيه النطق والتعامل بالغه الفرنسيه , أنه يضع اللبنات الأولى فى تاريخ أشهر جاسوس مصرى .
وكبحار فى بحر الحياة المتلاطمه قضى "رفعت" حياته لا يعرف لنفسه هدفا , فها هو يهفو قلبه إلى عالم السينيما ويتسلل خلسه إلى غرفه الفنان "بشارة وكيم" أثناء أحد الرحلات وينسجم فى تقليد أدوارة حتى ظبطه الفنان الكبير "متلبسا" ونصحه نصيحه الأب لإبنه أن يهتم بدراسته ويعود له بعد الإنتهاء من دراسته عله يجد له دورا فى أحد الأعمال .
ولعل هذا الموقف كان هو الوازع القوى الذى دفع "رفعت" لإكمال دراسته والنجاح فيها حتى يستطيع الحصول على دور - حتى لو كان صغيرا - فى عالم السينيما كما وعدة "بشارة وكيم" , وفى هذة الأثناء وبالأخص فى عام 1943 تزوَّجت شقيقته (نزيهة) من الملازم أوَّل (أحمد شفيق)، وانتقلت الأم إلى (دكرنس)، واستعد (سامي) للزواج من ابنة (محرم فهيم)، رئيس نقابة المحامين - آنذاك - وأصبح من الضروري أن ينتقل (رفعت) مع شقيقه (لبيب)، الذى أصبح محاسباً في بنك (باركليز)، إلى شقة أخرى، استأجرها لهما (سامي)، بالقرب من ميدان (لاظوغلي).
وتأتى نقطه تحول أخرى فى حياة "رفعت" حينما عاد مرة أخرى إلى الفنان "بشارة وكيم " والذى تذكرة وأعطاة أحد الأدوار الصغيرة فى أحد الأفلام ومع ظهورة الأول على شاشه السينيما , تصور "رفعت" - رغم ضأله دورة - أنه أصبح نجما سينيمائيا , وفرض على زملاؤة أن يعاملوة معامله خاصه بناء على وضعه الجديد , وتزايدت فى ذهنه أحلام الثراء والشهرة والمجد .
وبدأت هنا أولى علاقات "رفعت"بعالم الجاسوسيه , بدأت وهو لا يدرى أى شىء , بدأت عندما تعرف على الراقصه اليهوديه الشابه "كيتى" والتى تكبرة بعام واحد , ولم يكن يعلم أن هذة الراقصه متورطه فى شبكه جاسوسيه , ولم يكن يعلم أنها ستفر من مصر دون أن يعلم بأمرها أى شخص وأنه بإختفاءها المباغت إختفت من حياته إلى الأبد , إلا أنه دفع ثمن علاقته بها وإنتقاله للعيش معها عندما تفجرت المشكلات العائليه بينه وبين "لبيب" مما جعله يترك "كيتى" ويهجر عالم السينيما ليبحث عن نفسه فى مكان أخر .
ومن السينيما إلى البترول يطير صاحبنا باحثا عن فرصه عمل , حصل عليها بجدارة فى إحدى شركات البترول الأجنبيه على ساحل البحر الأحمر , حصل على الوظيفه بسبب إجادته للغتين الفرنسيه والإنجليزيه , وكان عمله فى منطقه "رأس غارب" على بعد 200 كيلو من القاهرة حيث ترك مشاكله العائليه , ولم يحب العودة لها مرة أخرى , ولعل دهشه رئيسه فى العمل كانت كبيرة عندما قرر نقله إلى القاهرة كترقيه له , ورفضه الشديد العودة لها , وقطع "رفعت" الطريق على صاحب العمل برفضه الترقيه , وتركه للعمل بالكامل ليتقرب إلى أحد رجال الأعمال من الأسكندريه كى يجد له عملا هناك , وبالفعل إنتقل الهجان إلى عروس البحر المتوسط ليبدأ فصل جديد من حياته .
بإنتقاله للأسكندريه نشأت بينه وبين إبنه رجل الأعمال هذا علاقه حب قويه كان طرفاها "رفعت" من ناحيه و "هدى" إبنه رجل الأعمال من طرف أخر ولم يرفض الرجل علاقه الحب التى نشأت بين إبنته و "رفعت" إلا أن القدر قرر التدخل بعنف لقطع هذة العلاقه التى كانت من الممكن أن تغير حياة "رفعت" إلى الأبد , وتفصيل ذلك أن مهمة متابعة، لفرع الشركة في (القاهرة)، تحوَّلت إلى عملية احتيال، من مدير الفرع الخبيث، وانتهت باتهام (رفعت) بالاختلاس والسرقة..
وعلى الرغم من أن رجل الأعمال السكندري كان يدرك أن (رفعت) قد سقط في فخ محكم، إلا أنه اضطر لفصله من وظيفته، تجنباً لإجراء أية تحقيقات رسمية، في نفس الوقت الذي أوصى فيه بتعيينه كمساعد ضابط حسابات، على متن سفينة الشحن (حورس). ومن ثم إنطلق "رفعت" إلى ميناء "ليفربول" فى بريطانيا ولما كان من المفترض أن تبقى السفينة لمدة ليست بالقصيرة في ليفربول فقد بدأ رفعت في أستكشاف المكان وتولت الأقدار أمر تعارفه بـ "جودي موريس" وهي فتاة انجليزية ذكرته كثيرا بـ"كيتى" الراقصه التى كان يعرفها في مصر، غير أن جودي كانت تختلف كثيرا فقد كان والدها شخصية نقابية هامة في انجلترا,ولما أصبحت "حورس" جاهزة للرحيل تمسكت جودي برفعت وطالبته بالبقاء معها لبعض الوقت لكنه لم يكن مستعدا لخسارة وظيفته أو البقاء في انجلترا بطريقة غير مشروعة، غير أن جودي أوضحت له أن كثيرا من البحارة يضطرون إلى إستئصال الزائدة الدودية وبذلك يتخلفون عن اللحاق بسفنهم وينتظرون إلى أن تعود مرة آخرى كما أن والدها يستطيع مساعدته في الحصول على تصريح إقامة ومن ثم أدعى رفعت الألم وأجرى عملية إستئصال الزائدة الدودية وهو لا يشكو حقيقة منها بأي ألم!وعقب تماثله للشفاء التحق بالعمل لدى والد جودي في الميناء بعد أن رتب له الوالد تصريحا بالعمل,وسارت الأمور طبيعية بعض الوقت إلى أن شعر رفعت أن الأمور تتطور في غير صالحه خاصة بعد أن تعلقت جودي به كثيرا وأعلنت صراحة رغبتها في الزواج منه، ولما كان قد أيقن أنها لا تصلح له كزوجه فقد أنتهز أول فرصة حينما عادت "حورس" إلى ليفربول ليودعها عائدا إلى حياة البحر.
ثم عاد "رفعت" إلى مصر وتحديدا فى عام 1950 قبل عامان من إندلاع ثورة 1952 ثم سافر مرو أخرى على متن سفينه شحن إلى باريس ومنها غلى إنجلترا متحججا بمتابعه حالته بعد إجراء عمليه الزائدة الدوديه ثم إستقر فى إنجلترا عاملا بشركه سفريات بإسم "سلتيك تورز" .
وفي هذه المرة أيضاً، ومع النجاح الذي حققه في عمله، كان من الممكن أن يستقر "رفعت" في "لندن"، وأن يحصل على إقامة رسمية بها، بل وأن يصبح من كبار خبراء السياحة فيها، لولا أنه، وأثناء قيامه بعقد صفقة لحساب الشركة في "نيويورك"، تلقَّى عرضاً من صاحب شركة أمريكية، بدا له مناسباً للغاية، فقبله على الفور، ودون تفكير، وقرَّر الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الوقت، دون تأشيرة عمل رسمية، أو بطاقة ضمان اجتماعي خضراء "Green Card"
ولعل هذا أسوأ قرار اتخذه "رفعت" في حياته
فمنذ اتخذ قراره هذا، اضطربت حياة "رفعت" تماماً.
إدارة الهجرة بدأت تطارده، وصاحب العمل تخلّى عنه، وتم وضع اسمه فى القائمة السوداء في "أمريكا"، مما اضطره للهرب إلى "كندا"، ومنها إلى "فرانكفورت" في "ألمانيا"، التي حصل على تأشيرة ترانزيت بها، باعتبارها مجرَّد محطة، للوصول إلى "النمسا".
ولكن عبثه أيضاً صنع له مشكلة ضخمة في "فرانكفورت" و للا سف سرقت منه نقودة و جواز سفرة وفي تلك الفترة بالذات، كان الكثيرون من النازيين السابقين، يسعون للفرار من "ألمانيا"، ويشترون، في سبيل هذا جوازات سفر أجنبية.
ولقد اتهمه القنصل المصري هناك بأنه قد باع جواز سفره، ورفض أن يمنحه وثيقة سفر بدلاً منه، ثم لم تلبث الشرطة الألمانية أن ألقت القبض عليه، وتم سجنه لبعض الوقت، قبل أن يرحل قسراً، على متن أوَّل طائرة، عائداً إلى البلد الذي جاهد للابتعاد عنه, إلى مصر .
مع عودة "رفعت" إلى "مصر"، بدون وظيفة، أو جواز سفر، وقد سبقه تقرير عما حدث له في "فرانكفورت"، وشكوك حول ما فعله بجواز سفره، بدت الصورة أمامه قاتمة إلى حد محبط، مما دفعه إلى حالة مؤسفة من اليأس والإحباط، لم تنته إلا مع ظهور فرصة جديدة، للعمل في شركة قناة "السويس"، تتناسب مع إتقانه للغات..
ولكن الفرصة الجديدة كانت تحتاج إلى وثائق، وأوراق، وهوية..
وهنا، بدأ "رفعت" يقتحم العالم السفلي، وتعرَّف على مزوِّر بارع، منحه جواز سفر باسم"على مصطفى"، يحوي صورته، بدلاً من صورة صاحبه الأصلي.. وبهذا الاسم الجديد، عمل "رفعت" في شركة قناة "السويس"، وبدا له وكأن حالة الاستقرار قد بدأت..
ولكن هيهات… لقد قامت ثورة يوليو1952م، وشعر البريطانيون بالقلق، بشأن المرحلة القادمة، وأدركوا أن المصريين يتعاطفون مع النظام الجديد، فشرعوا في مراجعة أوراقهم، ووثائق هوياتهم، مما استشعر معه "رفعت" الخطر، فقرَّر ترك العمل، في شركة قناة "السويس"، وحصل من ذلك المزوِّر على جواز سفر جديد، لصحفي سويسري، يُدعى "تشارلز دينون".
والمدهش أن "رفعت" قد قضى بعض الوقت، في أحد الفنادق الدولية الكبرى، منتحلاً شخصية "دينون"، دون أن ينكشف أمره لحظة واحدة، أو يُدرك مخلوق واحد، ممن يتعامل معهم يومياً، أنه ليس صحفياً، بل وليس حتى سويسرياً، بل مجرَّد شاب مصري، يحمل شيكات سياحية، قيمتها اثنا عشر ألف دولار أمريكي، هى نتاج عمله في شركة "سلتيك تورز" البريطانية، مما يثبت مدى براعته، وقدرته المدهشة على إقناع وخداع كل من حوله، وتمكُّنه المدهش من اللغات ولكناتها أيضاً.
وبسبب بعض المتغيرات السياسية، في عام1953م، بدأت عملية مراجعة لأوراق الأجانب في "مصر"، مما اضطر "رفعت" إلى إنهاء إقامته في ذلك الفندق الدولي، الذى لم يُسدِّد فاتورته على الأرجح؛ لأنه قرَّر أن يغيِّر هويته مرة أخرى، وحصل بالفعل على جواز سفر جديد، باسم البريطانى "دانيال كادويل"وبأسلوب إيقاف السيارات (الأوتوستوب)، اتجه "رفعت" نحو حدود "ليبيا"، وقد وقر في نفسه أنه لم يعد أمامه سوى أن يغادر "مصر" كلها.ولقد سار كل شيء على ما يرام، حتى بلغ نقطة الحدود نفسها، وقدَّم للضابط البريطاني عندها جواز سفره البريطاني، بمنتهى الثقة والبساطة، وهو يتحدَّث معه بلكنة بريطانية صرفة..
ولكن الأمور لم تكن تسير لصالحه هذه المرة..
ففي ذلك الحين، كان الكثيرون من الجنود البريطانيين يفرون من وحداتهم في "الإسكندريه"، ويحاولون عبور الحدود إلى (ليبيا)، كما كان العشرات من اليهود يسعون لتهريب أموالهم، عبر الحدود نفسها، مما جعل الضابط البريطاني يطالبه بإفراغ كل ما تحويه جيوبه أمامه، فلم يتردَّد "رفعت" لحظة واحدة، وبدا شديد الهدوء والثقة، وهو يفرغ جيوبه أمام البريطاني، الذي التقط الشيكات السياحية، وفحصها في اهتمام بالغ، قبل أن يسأله عما يعنيه كون الشيكات محرَّرة لاسم "رفعت الجمال"، في حين أن جواز السفر يحمل اسم"دانيال كالدويل" وهنا، ارتكب (رفعت) أكبر حماقة في حياته، عندما قال: إنه سيوقَّع تلك الشيكات باسم (رفعت الجمَّال)، مما اعتبره البريطاني بادرة شك، فألقى القبض عليه، وأعاده إلى (القاهرة) مع تقرير يشير إلى أنه لا يبدو مصرياً، أو حتى بريطانياً، وأنه على الأرجح "دافيد أرنستون" آخر..و"دافيد أرنستون" هذا ضابط يهودي، كان مستشاراً للقائد التركي "جمال باشا" في "دمشق" يوماً ما، ضمن شبكة تجسُّس يهودية، انتشر أفرادها في الإمبراطورية العثمانية..
ولكن سلطات التحقيق في "مصر" لم تكن لديها خلفية تاريخية مناسبة، لتستوعب هذا الأمر، لذا فقد اتهمت "رفعت" بأنه يهودي، يحمل اسم "دافيد أرنستون"، وجواز سفر باسم "دانيال كالدويل"، وشيكات سياحية باسم "رفعت الجمال"، ولقد زاد هو الطين بلة -حسبما قال في مذكراته- عندما تحدَّث بالعربية، ليثبت التهمة على نفسه، مما جعلهم يرسلونه إلى "القاهرة"، وإلى "مصر الجديدة" بالتحديد؛ لأنها الجهة الوحيدة، التي عثروا فيها على اسم "رفعت الجمَّال".
وإنتهى هذا الفصل من حياة "رفعت على سليمان الجمال" ليبدأ الفصل الأكثر أهميه وحيويه فى حياة الجاسوس الأشهر .
عمل "رأفت الهجان" كجاسوس
لعل الجميع إنتظر أن يقرأ كيف إلتحق "رفعت" بعالم الجاسوسيه الغامض , ومن أجل إيفاء هذة الجزئيه حقها يجب أن نعلم فى البدايه أن جهاز المخابرات فى هذا الوقت كان فى أولى تجاربه وبداياته , لأن وضع مصر السياسى بالكامل كان متغيرا بعد أن إستطاع "الظباط الأحرار" إقتلاع الملك من مصر , وبدايه التفاوض حول وضع الإنجليز , وكانت المخابرات تعرف أنذاك بـ"البوليس السياسى" ثم مالبثت أن تحولت إلى "المخابرات المصريه" بعد ذلك .
ويمكن القول أن أحد أعضاء البوليس السياسى وإسمه "حسن حسنى" قد قابل "رفعت" فى حجزة فى "مصر الجديدة" وطلب منه بكل صراحه أن يعمل كجاسوس , ليس فى قلب إسرائيل , إنما أن يعمل كجاسوس على اليهود فى مصر والذين كانو - فى هذا الوقت - يعملون على تهريب أموالهم خارج مصر خاصه بعد حدوث الثورة , خوفا من النظام العسكرى الجديد , وكانت الدوله تعطيهم حد أقصى لتحويل الأموال , وكان ذلك لا يكفيهم , فإضطروا إلى محاوله تهريب كميات أكبر من الأموال خارج "مصر" بطرق غير مشروعه .
وكان الهدف من تجنيد "رفعت" فى البدايه هو التجسس على اليهود فى مصر لمعرفه كيف يتم تهريب أموالهم خارج البلاد؟ , ومن يقوم بذلك ؟ ولم يدر فى حسبان "رفعت" أو حتى ظابط المخابرات "حسن حسنى" أنه سيتم تحويل العمليه بالكامل بعد ذلك ليصبح "رفعت" هو أشهر جاسوس مصرى عمل فى قلب إسرائيل .
وكان "رفعت" بمثابه الصيد الثمين بالنسبه لـ"حسن حسنى" ظابط المخابرات المصرى , فبالنسبه له "رفعت" هو المصرى الوحيد الذى عاش كإنجليزى وفرنسى ويهودى دون أن يشك فيه أحد , ومثله لديه موهبه فى تقمص الشخصيات وكان عليه ألا يضيعها .
أما بالنسبه لـ"رفعت" فيقول فى مذكراته عن هذة المرحله فى حياته :
" وبعد أن قضيت زمناً طويلاً وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسروراً الآن إذ أبوح بالحقيقة إلى شخص ما. وهكذا شرعت أحكي لـ"حسن حسنى" كل شيء عني منذ البداية. كيف قابلت كثيرين من اليهود في ستوديوهات السينما، وكيف تمثلت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلاً. وحكيت له عن الفترة التي قضيتها في "إنجلترا" و"فرنسا" و"أمريكا"، ثم أخيراً في "مصر". بسطت له كل شيء في صدق. إنني مجرد مهرج، ومشخصاتي عاش في التظاهر ومثل كل الأدوار التي دفعته إليها الضرورة ليبلغ ما يريد في حياته.
بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة"حسن حسنى" أكثر مما كانت وقال لي:
- "رفعت"، أنت إنسان مذهل. لقدد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم. أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه. يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية"
ونقتبس من مذكرات "رفعت" أيضا كيف تم تدريبه فى المخابرات ؟ وعلى أى شىء تم تدريبه , فنجدة يقول :
" وبدأت فترة تدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقيت دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم. وعرفت كيف أمايز بين اليهود الإشكانز والسفارد والشازيد. وحفظت عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنت أرددها وأنا نائم. وتدربت أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً تقمصت شخصيتي الجديدة. وأصبحت منذ ذلك التاريخ "جاك بيتون" المولود في 23أغسطس عام1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية. وأن أسرتي تعيش الآن في "فرنسا" بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانتي هي يهودي إشكنازي. وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة"
هكذا ذكر "رفعت" الأمر، في مذكراته الشخصية.
وفي مذكراته هذه، يكشف لنا (رفعت الجمَّال) جانباً لم يتطرَّق إليه المسلسل التليفزيوني على نحو مباشر أبداً، إذ تباغتنا المفاجأة بأنه قد انضمّ، أثناء وجوده في (الإسكندرية)، إلى الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي (إفراهام دار)، لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان)، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (إسحق لافون)، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك..
وفي الوحدة (131)، كان (رفعت الجمَّال) زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية مثل (مارسيل نينو)
و(ماكس بينيت)، و(إيلي كوهين)، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في الشقيقة (سوريا)، وغيرهم..
ومذكرات (رفعت)، في هذا الجزء بالذات، تبدو مدهشة بحق، إذ أنها تخالف كل ما قرأناه أو تابعناه، بشأن عملية (سوزانا)، أو (فضيحة لافون)؛ إذ أنها توحي بأن كل شيء كان تحت سيطرة جهاز مكافحة الجاسوسية منذ البداية، وأن (حسن حسني)، ومن بعده (علي غالي)، الذي تولَّى أمر (رفعت)، في مرحلة تالية، كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات (رفعت)، التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها, أما إذا لم تكن تعرف معلومات عن "عمليه سوزانا" أو "فضيحه لافون" فسيرد ذلك تفصيليا فى "إنجازات رأفت الهجان" فى الصفحه الرئيسيه للموقع .
وحتى ذلك الحين، وكما يقول (رفعت) في مذكراته، كانت مهمته تقتصر على التجسُّس على مجتمع اليهود في (الإسكندرية)، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131)، تم استدعاؤه إلى (القاهرة)، ليلتقي بضابط حالته الجديد (علي غالي)، الذي واجهه لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر، خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131)، ستخدع الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل..
وهنا أيضاً، أعتقد أنه من الأروع أن نقرأ تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة، من مذكرات (رفعت) مباشرة، عندما يقول:
"مرة أخرى وجدت نفسي أقف عند نقطة تحول خطيرة في حياتي. لم أكن أتصور أنني ما أزال مديناً لهم، ولكن الأمر كان شديد الحساسية عندما يتعلق بجهاز المخابرات. فمن ناحية روعتني فكرة الذهاب إلى قلب عرين الأسد. فليس ثمة مكان للاختباء في (إسرائيل)، وإذا قبض عليَّ هناك فسوف يسدل الستار عليَّ نهائياً.
والمعروف أن (إسرائيل) لا تضيع وقتاً مع العملاء الأجانب. يستجوبونهم ثم يقتلونهم. ولست مشوقاً إلى ذلك. ولكني كنت أصبحت راسخ القدمين في الدور الذي تقمصته، كما لو كنت أمثل دوراً في السينما، وكنت قد أحببت قيامي بدور (جاك بيتون). أحببت اللعبة، والفارق الوحيد هذه المرة هو أن المسرح الذي سأؤدي عليه دوري هو العالم باتساعه، وموضوع الرواية هو الجاسوسية الدولية. وقلت في نفسي أي عرض مسرحي مذهل هذا؟... لقد اعتدت دائماً وبصورة ما أن أكون مغامراً مقامراً، وأحببت مذاق المخاطرة. وتدبرت أمري في إطار هذه الأفكار، وتبين لي أن لا خيار أمامي. سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي لأواجه خيارين في نهاية المطاف: إما أن يقبض عليَّ وأستجوب وأشنق، أو أن أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة أوسكار. وكنت مقتنعاً أيضاً بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها.
قلت لغالي:
- إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المههمة فإني لها.
ثم كان السؤال الثاني:
- كيف نبدأ من هنا؟
- سوف يجري تدريبك على العمل على الساحة الدولية. كل ما تتعلمه يجب أن يسري في دمك. هذا هو سر اللعبة. أنت مخرج عرضك المسرحي، وإما أن تنجح فيه بصورة كاملة، أو تواجه الهلاك.
تصافحنا علامة الموافقة وبدأت جولة تدريب مكثف. ودرست تاريخ اليهود الأوروبيين والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. تعلمت كل شيء عن الأحزاب السياسية في (إسرائيل) والنقابات و(الهستدروت) أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا والطوبوغرافيا وتركيب (إسرائيل). وأصبحت خبيراً بأبرز شخصيات (إسرائيل) في السياسة والجيش والاقتصاد عن طريق دراسة أفلام نشرات الأخبار الأسبوعية. وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر، والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية واللغة العبرية. واعتدت أن أستمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل. بل وعمدت إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنني في نهاية الأمر مولود في مصر بعد التدريب تحددت لي مهنة. تقرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا سيسمح لي بالدخول إلى (إسرائيل) والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة لأطول مدة ممكنة. لم يكن ثمة حد زمني، وكان لي الخيار بأن أترك الأمر كله إذا سارت الأمور في طريق خطر. وسوف نرى إلى أين تمضي بنا الأمور. وقيل لي إنني أستطيع بعد ذلك العودة إلى (مصر) وأستعيد شخصيتي الحقيقية. وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في (إسرائيل). وفي يونيو1956 استقللت سفينة متجهة إلى (نابولي) قاصداً في الأصل أرض الميعاد. ودعت (مصر) دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل"
وهكذا إنتهى هذا الفصل من حياة "رفعت الجمال" وإنجازات "رفعت" التى حققها مذهله بحق , لذا لم يكن من الممكن كتابتها هنا , إنما وضعناها فى قسم مستقل بذاتها , لتعلم أن 20 عاما من حياة هذا الرجل قضاها فى جمع المعلومات بطريقه أذهلت العدو قبل الصديق .
إنجازات "رأفت الهجان"
أعمال رأفت الهجان متشابكه للغايه , ومن الصعب فصلها عن بعضها البعض , ذلك لأنه عاش طيله عشرون عاما فى قلب العدو , وعاصر كل المتغيرات السيايسه والعسكريه فى المنطقه , لذا كان عليه أن يكون حذرا ويقظا , ذلك لأنه ساهم فى إسقاط العديد من شبكات التجسس الأخرى فى مصر والعالم العربى , كما ساهم فى تزويد مصر بالعديد والعديد من المعلومات التى ساعدتها فى مواجهاتها العسكريه مع إسرائيل .
ويمكن تلخيص إنجازات "رفعت الجمال" فى الأتى :
• تزويد مصر بميعاد العدوان الثلاثى على مصر قبله بفترة مناسبه إلا أن السلطات لم تأخذ الأمر بمأخذ الجد .
• تزويد مصر بميعاد الهجوم عليها فى 1967 إلا أن المعلومات لم تأخذ مأخذ الجد لوجود معلومات أخرى تشير لأن الهجوم سيكون منصبا على سوريا .
• الإيقاع بأخطر جاسوس إسرائيلى فى سوريا , وإسمه الحقيقى "إيلى كوهين" وعرف فى سوريا بإسم "كامل أمين ثابت"عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة (كامل أمين ثابت)، التي نشرتها الصحف، المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي "إيلى كوهين"
• إبلاغ(مصر) باعتزام (إسرائيل) إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة التكنولوجية الحديثة، أثناء لقائه برئيسه (علي غالي) في (ميلانو)
• الإيقاع بشبكه "لافون" التى قامت بعمل تفجيرات فى مصالح أمريكيه فى مصر , لإفساد العلاقات المصريه الأمريكيه فيما عرف أثناءها بإسم "فضيحه لافون" نسبه إلى قائدها .
ويمكن القول أن "رفعت على سليمان الجمال" لم يكتفى بتزويد مصر بمعلومات عن النكسه والعدوان الثلاثى , إنما زود مصر بالعديد من المعلومات التى ساعدت مصر على الإنتصار فى حرب أكتوبر , والعجيب فى الأمر أنه لم يصرح بهذة المعلومات فى مذكراته الشخصيه قط على عكس باقى المعلومات , كما أن "مصر" لم تعلن أى معلومات عن هذا الأمر مما يضع هذة المعلومات فى خانه السريه القصوى , وأن هذة المعلومات لا يمكن التصريح بها - من فرط خطورتها - حتى لحظه كتابه هذة السطور , وبالتأكيد هذا ما أدركه "رفعت" وحرص عليه .
يكفى أن نعلم أن "رفعت الجمال" كانت له علاقه صداقه وطيدة بينه وبين "موشى ديان" و "عيزرا وايزمان" و "شواب" و "بن جوريون" مؤسس الدوله اليهوديه شخصيا , ومن المستحيل أن يتكرر أن تكون لجاسوس مصرى علاقه صداقه وطيدة بمؤسس الدوله اليهوديه .
ولا يمكن أن نحدد ما إذا كان النجاح المبهر الذى حققه "رفعت الجمال" راجعا لعبقريته والفطرة التى فطرها الله عليها , أم أنها ترجع لمهارة رجال المخابرات الذين زرعوة بمنتهى الحرص فى قلب الدوله الصهيونيه حديثه التكوين , إلا أن رايى الشخصى أن سبب نجاح العمليه هى إخلاص كل شخص فى عمله , إخلاص "الجمال" وإخلاص رجال المخابرات الذين عملوا معه , وقبل كل ذلك توفيق الله - سبحانه وتعالى -
وفاة "رأفت الهجان"
بلا شك أن "رفعت الجمال" كان يشعر بالحنين كل يوم إلى أن يعود إلى مصر , ويحيا ما بقى له من أيام بإسمه وشخصيته وديانته الحقيقين بعيدا عن زيف حياة الجاسوسيه , إلا أن الواقع السياسى فى تلك الفترة الملتهبه لم يمهله ذلك , حتى أنه تقدم أكثر من مرة بطلب للمخابرات المصريه لإنهاء العمليه وعودته إلى مصر مرة أخرى , إلا أن ذلك كان صعبا للغايه , لأسباب تتعلق بتأمينه هو وزوجته وأطفاله من أى محاوله إنتقاميه من قبل إسرائيل فى حاله كشف أمرة .
والغريب أن فى كل مرة كانت المخابرات ترفض طلب "رفعت" كان يزداد نشاطه وحماسه للعمل بالرغم من أن التفكير المنطقى يدعوة لعدم العمل بجد حتى يفقد رجال المخابرات الأمل فى أن يمدهم بمعلومات هامه ويقرروا عودته , إلا أن تفانيه فى العمل يعطينا دلاله أنه كان يعمل لصالح مصر , لم يكن يعمل للمال أو للشهرة أو النفوذ , يكفى أن جنازته لم يسر فيها إلا عدد محدود من الأفراد , ويكفى أنه لم يصبح شهيرا إلا بعد وفاته أى أنه لم يكن يسعى لذلك على الإطلاق .
وقرر الهجان أن يكتب مذكراته , وأودعها لدى محاميه , على أن يتم تسليمها لزوجته بعد وفاته بثلاث سنوات حتى تكون قد إستعادت رباط جأشها ولديها القدرة على أن تتماسك وتتفهم حقيقه زوجها الذى عاش معها طوال هذة السنوات الطوال .كان على الطير أن يواصل التحليق إذن، بعيداً عن وطنه، وأن يحمل حتى آخر العمر جنسية (جاك بيتون)، اليهودي الإسرائيلي السابق، ورجل الأعمال الألماني المحترم، الذي نجح في إقامة مشروع نفطي كبير في (مصر)، ظلّ يزهو به، حتى آخر لحظة في حياته، ويروي في مذكراته كيف حصل على امتياز التنقيب عن البترول المصري، في عام 1977م، ليعود أخيراً إلى (مصر)، التي عشق ترابها، وفعل من أجلها كل ما فعله..
وفي نهاية مذكراته، يتحدَّث (رفعت الجمَّال) عن إصابته بمرض خبيث، وتلقيه العلاج الكيمائي، في أكتوبر1981م، وتفاقم حالته، ثم يبدي ارتياحه، لأن العمر قد أمهله، حتى أكمل مذكراته، وأن زوجته وابنه (دانيال)، وابنته بالتبني (أندريا) سيعرفون يوماً ما حقيقته، وهويته، وطبيعة الدور البطولي الذي عاش فيه عمره كله، من أجل وطنه.
وقد كتب "الجمال" وصيه تفتح فى حال وفاته , وكان نصها كالتالى :
"وصيتى. أضعها أمانة فى أيديكم الكريمة السلام على من اتبع الهدى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا لله وإنا إليه راجعون لقد سبق وتركت معكم ما يشبه وصية، وأرجو التكرم باعتبارها لاغية، وهأنذا أقدم لسيادتكم وصيتى بعد تعديلها إلى ما هو آت: فى حالة عدم عودتى حيا أرزق إلى أرض الوطن الحبيب مصر أى أن تكتشف حقيقة أمرى فى إسرائيل، وينتهى بى الأمر إلى المصير المحتوم الوحيد فى هذه الحال، وهو الإعدام، فإننى أرجو صرف المبالغ الآتية:
1- لأخى من أبى سالم على الهجان، القاطن.. برقم.. شارع الإمام على مبلغ.. جنيه. أعتقد أنه يساوى إن لم يكن يزيد على المبالغ التى صرفها على منذ وفاة المرحوم والدى عام 1935، وبذلك أصبح غير مدين له بشيء.
2- لأخى حبيب على الهجان، ومكتبه بشارع عماد الدين رقم...، مبلغ... كان يدعى أنى مدين له به، وليترحم على إن أراد
3- مبلغ... لشقيقتى العزيزة شريفة حرم الصاغ محمد رفيق والمقيمة بشارع الفيوم رقم .. بمصر الجديدة بصفة هدية رمزية متواضعة منى لها، وأسألها الدعاء لى دائما بالرحمة.
4- المبلغ المتبقى من مستحقاتى يقسم كالآتى:
نصف المبلغ لطارق محمد رفيق نجل الصاغ محمد رفيق وشقيقتى شريفة، وليعلم أننى كنت أكن له محبة كبيرة.
- النصف الثانى يصرف لملاجئ الأيتام بذلكك أكون قد أبرأت ذمتى أمام الله، بعد أن بذلت كل ما فى وسعى لخدمة الوطن العزيز، والله أكبر والعزة لمصر الحبيبة
إنا لله وإنا إليه راجعون
أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله "
ومهما نشر اليهود من قصص وأكاذيب , يكفينا فخرا أن عميلا مصريا واحدا إستطاع صفع إسرائيل طيله 18 عاما كامله من الخداع , ولا يسعنا بعد كل ما قرأناة وسمعناة إلا أن نقرأ الفاتحه ترحما على روح الفقيد "رفعت على سليمان الجمال" المصرى المسلم الذى إستطاع الوصول لعرين الأسد والخروج بسلام منه .
ستلاحظ فى جميع فصول قصه "رأفت الهجان" أن الأقدار تدفعه منذ اللحظه الأولى , وتعدة منذ نعومه أظافرة ليصبح أشهر جاسوس مصرى تم زرعه فى قلب الكيان الإسرائيلى , جاسوس إستطاع الحصول على أهم المعلومات وأكثرها سريه ومن مصادرها الشخصيه ليصبح الأكفأ والأجدر وواحدا من أعلام عالم المخابرات السريه فى العالم أجمع .
وقد يدهش البعض إن علم أن أشهر جاسوس هذا ولد فى مدينه "دمياط" فى "جمهوريه مصر العربيه" فى 1 - 7 - 1927 وكان والدة يعمل كتاجر فحم بالجمله ووالدته ربه منزل من أسرة مرموقه وكانت والدته تجيد اللغتين الإنجليزيه والفرنسيه , وهنا نجد أن القدر قد كتب كلمته منذ اللحظات الأولى فى تربيه "رفعت الجمال" وهو الإسم الحقيقى لـ"رأفت الهجان" ونجد أنه تعلم اللغه الإنجليزيه والفرنسيه فى إحدى المدارس الخاصه , وأجادهما وسيكون ذلك مفيدا له فى حياته التجسسيه وكأنما تعدة أقدارة ليكون جاسوسا منذ تفتحت عيناة على الدنيا .
وبعد ذلك بسنوات وتحديدا فى 1936 توفى "على سليمان الجمال" والد "رفعت الجمال" وأصبح "سامى" الأخ الغير شقيق لـ"رأفت" هو المسئول الوحيد عن المنزل , وكانت مكانه "سامى" الرفيعه , وعمله كمدرس لغه إنجليزيه لأخو الملكه "فريدة" تؤهله ليكون هو المسئول عن المنزل وعن إخوته بعد وفاة والدة , وبعد ذلك إنتقلت الأسرة بالكامل إلى "القاهرة" عاصمه "جمهوريه مصر العربيه , ليبدأ فصل جديد من حياة هذا الرجل الذى عاش فى الظل ومات فى الظل ولم ينتظر الجزاء إلا من الله سبحانه وتعالى ..
وبعد ذلك بدأت مرحله شباب " رأفت الهجان " والتى ستكون حافله بالعديد من المفاجأت المثيرة .
________________________________________
شباب "رأفت الهجان"
شخصيه "رفعت" لم تكن شخصيه مسئوله , كان طالبا مستهترا لا يهتم كثيرا بدراسته , لذا رأى إخوته ضرورة دخوله لمدرسه التجارة المتوسطه ورغم إعتراض "رفعت" على إلحاقه بمثل هذة النوعيه من المدارس إلا أننا نجد أن القدر يرسم - وبحرفيه شديدة - الخطوط العريضه لحياته المستقبليه ففى المدرسه بدأت عيناة تتفتحان على البريطانين وإنبهر بطرق كفاحهم المستميت ضد الزحف النازى , ولأن من يحب شعبا من الشعوب يسعى جاهدا لتعلم كل شىء عنهم , نجد "رفعت" قد تعلم الإنجليزيه بجدارة , ليس هذا فقط بل أيضا تعلم أن يتكلم الإنجليزيه باللكنه البريطانيه وكم سيكون هذا مفيدا له فى المستقبل البعيد .
وكما تعلم "رفعت" الإنجليزيه بلكنه بريطانيه تعلم الفرنسيه بلكنه أهل باريس , وإن كان تعلم البريطانيه إعجابا لشعبها نجدة تعلم الفرنسيه إعجابا بمعلمه فى المدرسه ولم يكن يعلم معلمه فى المدرسه وهو يعلمه كيفيه النطق والتعامل بالغه الفرنسيه , أنه يضع اللبنات الأولى فى تاريخ أشهر جاسوس مصرى .
وكبحار فى بحر الحياة المتلاطمه قضى "رفعت" حياته لا يعرف لنفسه هدفا , فها هو يهفو قلبه إلى عالم السينيما ويتسلل خلسه إلى غرفه الفنان "بشارة وكيم" أثناء أحد الرحلات وينسجم فى تقليد أدوارة حتى ظبطه الفنان الكبير "متلبسا" ونصحه نصيحه الأب لإبنه أن يهتم بدراسته ويعود له بعد الإنتهاء من دراسته عله يجد له دورا فى أحد الأعمال .
ولعل هذا الموقف كان هو الوازع القوى الذى دفع "رفعت" لإكمال دراسته والنجاح فيها حتى يستطيع الحصول على دور - حتى لو كان صغيرا - فى عالم السينيما كما وعدة "بشارة وكيم" , وفى هذة الأثناء وبالأخص فى عام 1943 تزوَّجت شقيقته (نزيهة) من الملازم أوَّل (أحمد شفيق)، وانتقلت الأم إلى (دكرنس)، واستعد (سامي) للزواج من ابنة (محرم فهيم)، رئيس نقابة المحامين - آنذاك - وأصبح من الضروري أن ينتقل (رفعت) مع شقيقه (لبيب)، الذى أصبح محاسباً في بنك (باركليز)، إلى شقة أخرى، استأجرها لهما (سامي)، بالقرب من ميدان (لاظوغلي).
وتأتى نقطه تحول أخرى فى حياة "رفعت" حينما عاد مرة أخرى إلى الفنان "بشارة وكيم " والذى تذكرة وأعطاة أحد الأدوار الصغيرة فى أحد الأفلام ومع ظهورة الأول على شاشه السينيما , تصور "رفعت" - رغم ضأله دورة - أنه أصبح نجما سينيمائيا , وفرض على زملاؤة أن يعاملوة معامله خاصه بناء على وضعه الجديد , وتزايدت فى ذهنه أحلام الثراء والشهرة والمجد .
وبدأت هنا أولى علاقات "رفعت"بعالم الجاسوسيه , بدأت وهو لا يدرى أى شىء , بدأت عندما تعرف على الراقصه اليهوديه الشابه "كيتى" والتى تكبرة بعام واحد , ولم يكن يعلم أن هذة الراقصه متورطه فى شبكه جاسوسيه , ولم يكن يعلم أنها ستفر من مصر دون أن يعلم بأمرها أى شخص وأنه بإختفاءها المباغت إختفت من حياته إلى الأبد , إلا أنه دفع ثمن علاقته بها وإنتقاله للعيش معها عندما تفجرت المشكلات العائليه بينه وبين "لبيب" مما جعله يترك "كيتى" ويهجر عالم السينيما ليبحث عن نفسه فى مكان أخر .
ومن السينيما إلى البترول يطير صاحبنا باحثا عن فرصه عمل , حصل عليها بجدارة فى إحدى شركات البترول الأجنبيه على ساحل البحر الأحمر , حصل على الوظيفه بسبب إجادته للغتين الفرنسيه والإنجليزيه , وكان عمله فى منطقه "رأس غارب" على بعد 200 كيلو من القاهرة حيث ترك مشاكله العائليه , ولم يحب العودة لها مرة أخرى , ولعل دهشه رئيسه فى العمل كانت كبيرة عندما قرر نقله إلى القاهرة كترقيه له , ورفضه الشديد العودة لها , وقطع "رفعت" الطريق على صاحب العمل برفضه الترقيه , وتركه للعمل بالكامل ليتقرب إلى أحد رجال الأعمال من الأسكندريه كى يجد له عملا هناك , وبالفعل إنتقل الهجان إلى عروس البحر المتوسط ليبدأ فصل جديد من حياته .
بإنتقاله للأسكندريه نشأت بينه وبين إبنه رجل الأعمال هذا علاقه حب قويه كان طرفاها "رفعت" من ناحيه و "هدى" إبنه رجل الأعمال من طرف أخر ولم يرفض الرجل علاقه الحب التى نشأت بين إبنته و "رفعت" إلا أن القدر قرر التدخل بعنف لقطع هذة العلاقه التى كانت من الممكن أن تغير حياة "رفعت" إلى الأبد , وتفصيل ذلك أن مهمة متابعة، لفرع الشركة في (القاهرة)، تحوَّلت إلى عملية احتيال، من مدير الفرع الخبيث، وانتهت باتهام (رفعت) بالاختلاس والسرقة..
وعلى الرغم من أن رجل الأعمال السكندري كان يدرك أن (رفعت) قد سقط في فخ محكم، إلا أنه اضطر لفصله من وظيفته، تجنباً لإجراء أية تحقيقات رسمية، في نفس الوقت الذي أوصى فيه بتعيينه كمساعد ضابط حسابات، على متن سفينة الشحن (حورس). ومن ثم إنطلق "رفعت" إلى ميناء "ليفربول" فى بريطانيا ولما كان من المفترض أن تبقى السفينة لمدة ليست بالقصيرة في ليفربول فقد بدأ رفعت في أستكشاف المكان وتولت الأقدار أمر تعارفه بـ "جودي موريس" وهي فتاة انجليزية ذكرته كثيرا بـ"كيتى" الراقصه التى كان يعرفها في مصر، غير أن جودي كانت تختلف كثيرا فقد كان والدها شخصية نقابية هامة في انجلترا,ولما أصبحت "حورس" جاهزة للرحيل تمسكت جودي برفعت وطالبته بالبقاء معها لبعض الوقت لكنه لم يكن مستعدا لخسارة وظيفته أو البقاء في انجلترا بطريقة غير مشروعة، غير أن جودي أوضحت له أن كثيرا من البحارة يضطرون إلى إستئصال الزائدة الدودية وبذلك يتخلفون عن اللحاق بسفنهم وينتظرون إلى أن تعود مرة آخرى كما أن والدها يستطيع مساعدته في الحصول على تصريح إقامة ومن ثم أدعى رفعت الألم وأجرى عملية إستئصال الزائدة الدودية وهو لا يشكو حقيقة منها بأي ألم!وعقب تماثله للشفاء التحق بالعمل لدى والد جودي في الميناء بعد أن رتب له الوالد تصريحا بالعمل,وسارت الأمور طبيعية بعض الوقت إلى أن شعر رفعت أن الأمور تتطور في غير صالحه خاصة بعد أن تعلقت جودي به كثيرا وأعلنت صراحة رغبتها في الزواج منه، ولما كان قد أيقن أنها لا تصلح له كزوجه فقد أنتهز أول فرصة حينما عادت "حورس" إلى ليفربول ليودعها عائدا إلى حياة البحر.
ثم عاد "رفعت" إلى مصر وتحديدا فى عام 1950 قبل عامان من إندلاع ثورة 1952 ثم سافر مرو أخرى على متن سفينه شحن إلى باريس ومنها غلى إنجلترا متحججا بمتابعه حالته بعد إجراء عمليه الزائدة الدوديه ثم إستقر فى إنجلترا عاملا بشركه سفريات بإسم "سلتيك تورز" .
وفي هذه المرة أيضاً، ومع النجاح الذي حققه في عمله، كان من الممكن أن يستقر "رفعت" في "لندن"، وأن يحصل على إقامة رسمية بها، بل وأن يصبح من كبار خبراء السياحة فيها، لولا أنه، وأثناء قيامه بعقد صفقة لحساب الشركة في "نيويورك"، تلقَّى عرضاً من صاحب شركة أمريكية، بدا له مناسباً للغاية، فقبله على الفور، ودون تفكير، وقرَّر الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الوقت، دون تأشيرة عمل رسمية، أو بطاقة ضمان اجتماعي خضراء "Green Card"
ولعل هذا أسوأ قرار اتخذه "رفعت" في حياته
فمنذ اتخذ قراره هذا، اضطربت حياة "رفعت" تماماً.
إدارة الهجرة بدأت تطارده، وصاحب العمل تخلّى عنه، وتم وضع اسمه فى القائمة السوداء في "أمريكا"، مما اضطره للهرب إلى "كندا"، ومنها إلى "فرانكفورت" في "ألمانيا"، التي حصل على تأشيرة ترانزيت بها، باعتبارها مجرَّد محطة، للوصول إلى "النمسا".
ولكن عبثه أيضاً صنع له مشكلة ضخمة في "فرانكفورت" و للا سف سرقت منه نقودة و جواز سفرة وفي تلك الفترة بالذات، كان الكثيرون من النازيين السابقين، يسعون للفرار من "ألمانيا"، ويشترون، في سبيل هذا جوازات سفر أجنبية.
ولقد اتهمه القنصل المصري هناك بأنه قد باع جواز سفره، ورفض أن يمنحه وثيقة سفر بدلاً منه، ثم لم تلبث الشرطة الألمانية أن ألقت القبض عليه، وتم سجنه لبعض الوقت، قبل أن يرحل قسراً، على متن أوَّل طائرة، عائداً إلى البلد الذي جاهد للابتعاد عنه, إلى مصر .
مع عودة "رفعت" إلى "مصر"، بدون وظيفة، أو جواز سفر، وقد سبقه تقرير عما حدث له في "فرانكفورت"، وشكوك حول ما فعله بجواز سفره، بدت الصورة أمامه قاتمة إلى حد محبط، مما دفعه إلى حالة مؤسفة من اليأس والإحباط، لم تنته إلا مع ظهور فرصة جديدة، للعمل في شركة قناة "السويس"، تتناسب مع إتقانه للغات..
ولكن الفرصة الجديدة كانت تحتاج إلى وثائق، وأوراق، وهوية..
وهنا، بدأ "رفعت" يقتحم العالم السفلي، وتعرَّف على مزوِّر بارع، منحه جواز سفر باسم"على مصطفى"، يحوي صورته، بدلاً من صورة صاحبه الأصلي.. وبهذا الاسم الجديد، عمل "رفعت" في شركة قناة "السويس"، وبدا له وكأن حالة الاستقرار قد بدأت..
ولكن هيهات… لقد قامت ثورة يوليو1952م، وشعر البريطانيون بالقلق، بشأن المرحلة القادمة، وأدركوا أن المصريين يتعاطفون مع النظام الجديد، فشرعوا في مراجعة أوراقهم، ووثائق هوياتهم، مما استشعر معه "رفعت" الخطر، فقرَّر ترك العمل، في شركة قناة "السويس"، وحصل من ذلك المزوِّر على جواز سفر جديد، لصحفي سويسري، يُدعى "تشارلز دينون".
والمدهش أن "رفعت" قد قضى بعض الوقت، في أحد الفنادق الدولية الكبرى، منتحلاً شخصية "دينون"، دون أن ينكشف أمره لحظة واحدة، أو يُدرك مخلوق واحد، ممن يتعامل معهم يومياً، أنه ليس صحفياً، بل وليس حتى سويسرياً، بل مجرَّد شاب مصري، يحمل شيكات سياحية، قيمتها اثنا عشر ألف دولار أمريكي، هى نتاج عمله في شركة "سلتيك تورز" البريطانية، مما يثبت مدى براعته، وقدرته المدهشة على إقناع وخداع كل من حوله، وتمكُّنه المدهش من اللغات ولكناتها أيضاً.
وبسبب بعض المتغيرات السياسية، في عام1953م، بدأت عملية مراجعة لأوراق الأجانب في "مصر"، مما اضطر "رفعت" إلى إنهاء إقامته في ذلك الفندق الدولي، الذى لم يُسدِّد فاتورته على الأرجح؛ لأنه قرَّر أن يغيِّر هويته مرة أخرى، وحصل بالفعل على جواز سفر جديد، باسم البريطانى "دانيال كادويل"وبأسلوب إيقاف السيارات (الأوتوستوب)، اتجه "رفعت" نحو حدود "ليبيا"، وقد وقر في نفسه أنه لم يعد أمامه سوى أن يغادر "مصر" كلها.ولقد سار كل شيء على ما يرام، حتى بلغ نقطة الحدود نفسها، وقدَّم للضابط البريطاني عندها جواز سفره البريطاني، بمنتهى الثقة والبساطة، وهو يتحدَّث معه بلكنة بريطانية صرفة..
ولكن الأمور لم تكن تسير لصالحه هذه المرة..
ففي ذلك الحين، كان الكثيرون من الجنود البريطانيين يفرون من وحداتهم في "الإسكندريه"، ويحاولون عبور الحدود إلى (ليبيا)، كما كان العشرات من اليهود يسعون لتهريب أموالهم، عبر الحدود نفسها، مما جعل الضابط البريطاني يطالبه بإفراغ كل ما تحويه جيوبه أمامه، فلم يتردَّد "رفعت" لحظة واحدة، وبدا شديد الهدوء والثقة، وهو يفرغ جيوبه أمام البريطاني، الذي التقط الشيكات السياحية، وفحصها في اهتمام بالغ، قبل أن يسأله عما يعنيه كون الشيكات محرَّرة لاسم "رفعت الجمال"، في حين أن جواز السفر يحمل اسم"دانيال كالدويل" وهنا، ارتكب (رفعت) أكبر حماقة في حياته، عندما قال: إنه سيوقَّع تلك الشيكات باسم (رفعت الجمَّال)، مما اعتبره البريطاني بادرة شك، فألقى القبض عليه، وأعاده إلى (القاهرة) مع تقرير يشير إلى أنه لا يبدو مصرياً، أو حتى بريطانياً، وأنه على الأرجح "دافيد أرنستون" آخر..و"دافيد أرنستون" هذا ضابط يهودي، كان مستشاراً للقائد التركي "جمال باشا" في "دمشق" يوماً ما، ضمن شبكة تجسُّس يهودية، انتشر أفرادها في الإمبراطورية العثمانية..
ولكن سلطات التحقيق في "مصر" لم تكن لديها خلفية تاريخية مناسبة، لتستوعب هذا الأمر، لذا فقد اتهمت "رفعت" بأنه يهودي، يحمل اسم "دافيد أرنستون"، وجواز سفر باسم "دانيال كالدويل"، وشيكات سياحية باسم "رفعت الجمال"، ولقد زاد هو الطين بلة -حسبما قال في مذكراته- عندما تحدَّث بالعربية، ليثبت التهمة على نفسه، مما جعلهم يرسلونه إلى "القاهرة"، وإلى "مصر الجديدة" بالتحديد؛ لأنها الجهة الوحيدة، التي عثروا فيها على اسم "رفعت الجمَّال".
وإنتهى هذا الفصل من حياة "رفعت على سليمان الجمال" ليبدأ الفصل الأكثر أهميه وحيويه فى حياة الجاسوس الأشهر .
عمل "رأفت الهجان" كجاسوس
لعل الجميع إنتظر أن يقرأ كيف إلتحق "رفعت" بعالم الجاسوسيه الغامض , ومن أجل إيفاء هذة الجزئيه حقها يجب أن نعلم فى البدايه أن جهاز المخابرات فى هذا الوقت كان فى أولى تجاربه وبداياته , لأن وضع مصر السياسى بالكامل كان متغيرا بعد أن إستطاع "الظباط الأحرار" إقتلاع الملك من مصر , وبدايه التفاوض حول وضع الإنجليز , وكانت المخابرات تعرف أنذاك بـ"البوليس السياسى" ثم مالبثت أن تحولت إلى "المخابرات المصريه" بعد ذلك .
ويمكن القول أن أحد أعضاء البوليس السياسى وإسمه "حسن حسنى" قد قابل "رفعت" فى حجزة فى "مصر الجديدة" وطلب منه بكل صراحه أن يعمل كجاسوس , ليس فى قلب إسرائيل , إنما أن يعمل كجاسوس على اليهود فى مصر والذين كانو - فى هذا الوقت - يعملون على تهريب أموالهم خارج مصر خاصه بعد حدوث الثورة , خوفا من النظام العسكرى الجديد , وكانت الدوله تعطيهم حد أقصى لتحويل الأموال , وكان ذلك لا يكفيهم , فإضطروا إلى محاوله تهريب كميات أكبر من الأموال خارج "مصر" بطرق غير مشروعه .
وكان الهدف من تجنيد "رفعت" فى البدايه هو التجسس على اليهود فى مصر لمعرفه كيف يتم تهريب أموالهم خارج البلاد؟ , ومن يقوم بذلك ؟ ولم يدر فى حسبان "رفعت" أو حتى ظابط المخابرات "حسن حسنى" أنه سيتم تحويل العمليه بالكامل بعد ذلك ليصبح "رفعت" هو أشهر جاسوس مصرى عمل فى قلب إسرائيل .
وكان "رفعت" بمثابه الصيد الثمين بالنسبه لـ"حسن حسنى" ظابط المخابرات المصرى , فبالنسبه له "رفعت" هو المصرى الوحيد الذى عاش كإنجليزى وفرنسى ويهودى دون أن يشك فيه أحد , ومثله لديه موهبه فى تقمص الشخصيات وكان عليه ألا يضيعها .
أما بالنسبه لـ"رفعت" فيقول فى مذكراته عن هذة المرحله فى حياته :
" وبعد أن قضيت زمناً طويلاً وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسروراً الآن إذ أبوح بالحقيقة إلى شخص ما. وهكذا شرعت أحكي لـ"حسن حسنى" كل شيء عني منذ البداية. كيف قابلت كثيرين من اليهود في ستوديوهات السينما، وكيف تمثلت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلاً. وحكيت له عن الفترة التي قضيتها في "إنجلترا" و"فرنسا" و"أمريكا"، ثم أخيراً في "مصر". بسطت له كل شيء في صدق. إنني مجرد مهرج، ومشخصاتي عاش في التظاهر ومثل كل الأدوار التي دفعته إليها الضرورة ليبلغ ما يريد في حياته.
بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة"حسن حسنى" أكثر مما كانت وقال لي:
- "رفعت"، أنت إنسان مذهل. لقدد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم. أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه. يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية"
ونقتبس من مذكرات "رفعت" أيضا كيف تم تدريبه فى المخابرات ؟ وعلى أى شىء تم تدريبه , فنجدة يقول :
" وبدأت فترة تدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقيت دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم. وعرفت كيف أمايز بين اليهود الإشكانز والسفارد والشازيد. وحفظت عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنت أرددها وأنا نائم. وتدربت أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً تقمصت شخصيتي الجديدة. وأصبحت منذ ذلك التاريخ "جاك بيتون" المولود في 23أغسطس عام1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية. وأن أسرتي تعيش الآن في "فرنسا" بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانتي هي يهودي إشكنازي. وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة"
هكذا ذكر "رفعت" الأمر، في مذكراته الشخصية.
وفي مذكراته هذه، يكشف لنا (رفعت الجمَّال) جانباً لم يتطرَّق إليه المسلسل التليفزيوني على نحو مباشر أبداً، إذ تباغتنا المفاجأة بأنه قد انضمّ، أثناء وجوده في (الإسكندرية)، إلى الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي (إفراهام دار)، لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان)، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (إسحق لافون)، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك..
وفي الوحدة (131)، كان (رفعت الجمَّال) زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية مثل (مارسيل نينو)
و(ماكس بينيت)، و(إيلي كوهين)، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في الشقيقة (سوريا)، وغيرهم..
ومذكرات (رفعت)، في هذا الجزء بالذات، تبدو مدهشة بحق، إذ أنها تخالف كل ما قرأناه أو تابعناه، بشأن عملية (سوزانا)، أو (فضيحة لافون)؛ إذ أنها توحي بأن كل شيء كان تحت سيطرة جهاز مكافحة الجاسوسية منذ البداية، وأن (حسن حسني)، ومن بعده (علي غالي)، الذي تولَّى أمر (رفعت)، في مرحلة تالية، كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات (رفعت)، التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها, أما إذا لم تكن تعرف معلومات عن "عمليه سوزانا" أو "فضيحه لافون" فسيرد ذلك تفصيليا فى "إنجازات رأفت الهجان" فى الصفحه الرئيسيه للموقع .
وحتى ذلك الحين، وكما يقول (رفعت) في مذكراته، كانت مهمته تقتصر على التجسُّس على مجتمع اليهود في (الإسكندرية)، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131)، تم استدعاؤه إلى (القاهرة)، ليلتقي بضابط حالته الجديد (علي غالي)، الذي واجهه لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر، خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131)، ستخدع الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل..
وهنا أيضاً، أعتقد أنه من الأروع أن نقرأ تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة، من مذكرات (رفعت) مباشرة، عندما يقول:
"مرة أخرى وجدت نفسي أقف عند نقطة تحول خطيرة في حياتي. لم أكن أتصور أنني ما أزال مديناً لهم، ولكن الأمر كان شديد الحساسية عندما يتعلق بجهاز المخابرات. فمن ناحية روعتني فكرة الذهاب إلى قلب عرين الأسد. فليس ثمة مكان للاختباء في (إسرائيل)، وإذا قبض عليَّ هناك فسوف يسدل الستار عليَّ نهائياً.
والمعروف أن (إسرائيل) لا تضيع وقتاً مع العملاء الأجانب. يستجوبونهم ثم يقتلونهم. ولست مشوقاً إلى ذلك. ولكني كنت أصبحت راسخ القدمين في الدور الذي تقمصته، كما لو كنت أمثل دوراً في السينما، وكنت قد أحببت قيامي بدور (جاك بيتون). أحببت اللعبة، والفارق الوحيد هذه المرة هو أن المسرح الذي سأؤدي عليه دوري هو العالم باتساعه، وموضوع الرواية هو الجاسوسية الدولية. وقلت في نفسي أي عرض مسرحي مذهل هذا؟... لقد اعتدت دائماً وبصورة ما أن أكون مغامراً مقامراً، وأحببت مذاق المخاطرة. وتدبرت أمري في إطار هذه الأفكار، وتبين لي أن لا خيار أمامي. سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي لأواجه خيارين في نهاية المطاف: إما أن يقبض عليَّ وأستجوب وأشنق، أو أن أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة أوسكار. وكنت مقتنعاً أيضاً بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها.
قلت لغالي:
- إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المههمة فإني لها.
ثم كان السؤال الثاني:
- كيف نبدأ من هنا؟
- سوف يجري تدريبك على العمل على الساحة الدولية. كل ما تتعلمه يجب أن يسري في دمك. هذا هو سر اللعبة. أنت مخرج عرضك المسرحي، وإما أن تنجح فيه بصورة كاملة، أو تواجه الهلاك.
تصافحنا علامة الموافقة وبدأت جولة تدريب مكثف. ودرست تاريخ اليهود الأوروبيين والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. تعلمت كل شيء عن الأحزاب السياسية في (إسرائيل) والنقابات و(الهستدروت) أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا والطوبوغرافيا وتركيب (إسرائيل). وأصبحت خبيراً بأبرز شخصيات (إسرائيل) في السياسة والجيش والاقتصاد عن طريق دراسة أفلام نشرات الأخبار الأسبوعية. وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر، والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية واللغة العبرية. واعتدت أن أستمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل. بل وعمدت إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنني في نهاية الأمر مولود في مصر بعد التدريب تحددت لي مهنة. تقرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا سيسمح لي بالدخول إلى (إسرائيل) والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة لأطول مدة ممكنة. لم يكن ثمة حد زمني، وكان لي الخيار بأن أترك الأمر كله إذا سارت الأمور في طريق خطر. وسوف نرى إلى أين تمضي بنا الأمور. وقيل لي إنني أستطيع بعد ذلك العودة إلى (مصر) وأستعيد شخصيتي الحقيقية. وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في (إسرائيل). وفي يونيو1956 استقللت سفينة متجهة إلى (نابولي) قاصداً في الأصل أرض الميعاد. ودعت (مصر) دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل"
وهكذا إنتهى هذا الفصل من حياة "رفعت الجمال" وإنجازات "رفعت" التى حققها مذهله بحق , لذا لم يكن من الممكن كتابتها هنا , إنما وضعناها فى قسم مستقل بذاتها , لتعلم أن 20 عاما من حياة هذا الرجل قضاها فى جمع المعلومات بطريقه أذهلت العدو قبل الصديق .
إنجازات "رأفت الهجان"
أعمال رأفت الهجان متشابكه للغايه , ومن الصعب فصلها عن بعضها البعض , ذلك لأنه عاش طيله عشرون عاما فى قلب العدو , وعاصر كل المتغيرات السيايسه والعسكريه فى المنطقه , لذا كان عليه أن يكون حذرا ويقظا , ذلك لأنه ساهم فى إسقاط العديد من شبكات التجسس الأخرى فى مصر والعالم العربى , كما ساهم فى تزويد مصر بالعديد والعديد من المعلومات التى ساعدتها فى مواجهاتها العسكريه مع إسرائيل .
ويمكن تلخيص إنجازات "رفعت الجمال" فى الأتى :
• تزويد مصر بميعاد العدوان الثلاثى على مصر قبله بفترة مناسبه إلا أن السلطات لم تأخذ الأمر بمأخذ الجد .
• تزويد مصر بميعاد الهجوم عليها فى 1967 إلا أن المعلومات لم تأخذ مأخذ الجد لوجود معلومات أخرى تشير لأن الهجوم سيكون منصبا على سوريا .
• الإيقاع بأخطر جاسوس إسرائيلى فى سوريا , وإسمه الحقيقى "إيلى كوهين" وعرف فى سوريا بإسم "كامل أمين ثابت"عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة (كامل أمين ثابت)، التي نشرتها الصحف، المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي "إيلى كوهين"
• إبلاغ(مصر) باعتزام (إسرائيل) إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة التكنولوجية الحديثة، أثناء لقائه برئيسه (علي غالي) في (ميلانو)
• الإيقاع بشبكه "لافون" التى قامت بعمل تفجيرات فى مصالح أمريكيه فى مصر , لإفساد العلاقات المصريه الأمريكيه فيما عرف أثناءها بإسم "فضيحه لافون" نسبه إلى قائدها .
ويمكن القول أن "رفعت على سليمان الجمال" لم يكتفى بتزويد مصر بمعلومات عن النكسه والعدوان الثلاثى , إنما زود مصر بالعديد من المعلومات التى ساعدت مصر على الإنتصار فى حرب أكتوبر , والعجيب فى الأمر أنه لم يصرح بهذة المعلومات فى مذكراته الشخصيه قط على عكس باقى المعلومات , كما أن "مصر" لم تعلن أى معلومات عن هذا الأمر مما يضع هذة المعلومات فى خانه السريه القصوى , وأن هذة المعلومات لا يمكن التصريح بها - من فرط خطورتها - حتى لحظه كتابه هذة السطور , وبالتأكيد هذا ما أدركه "رفعت" وحرص عليه .
يكفى أن نعلم أن "رفعت الجمال" كانت له علاقه صداقه وطيدة بينه وبين "موشى ديان" و "عيزرا وايزمان" و "شواب" و "بن جوريون" مؤسس الدوله اليهوديه شخصيا , ومن المستحيل أن يتكرر أن تكون لجاسوس مصرى علاقه صداقه وطيدة بمؤسس الدوله اليهوديه .
ولا يمكن أن نحدد ما إذا كان النجاح المبهر الذى حققه "رفعت الجمال" راجعا لعبقريته والفطرة التى فطرها الله عليها , أم أنها ترجع لمهارة رجال المخابرات الذين زرعوة بمنتهى الحرص فى قلب الدوله الصهيونيه حديثه التكوين , إلا أن رايى الشخصى أن سبب نجاح العمليه هى إخلاص كل شخص فى عمله , إخلاص "الجمال" وإخلاص رجال المخابرات الذين عملوا معه , وقبل كل ذلك توفيق الله - سبحانه وتعالى -
وفاة "رأفت الهجان"
بلا شك أن "رفعت الجمال" كان يشعر بالحنين كل يوم إلى أن يعود إلى مصر , ويحيا ما بقى له من أيام بإسمه وشخصيته وديانته الحقيقين بعيدا عن زيف حياة الجاسوسيه , إلا أن الواقع السياسى فى تلك الفترة الملتهبه لم يمهله ذلك , حتى أنه تقدم أكثر من مرة بطلب للمخابرات المصريه لإنهاء العمليه وعودته إلى مصر مرة أخرى , إلا أن ذلك كان صعبا للغايه , لأسباب تتعلق بتأمينه هو وزوجته وأطفاله من أى محاوله إنتقاميه من قبل إسرائيل فى حاله كشف أمرة .
والغريب أن فى كل مرة كانت المخابرات ترفض طلب "رفعت" كان يزداد نشاطه وحماسه للعمل بالرغم من أن التفكير المنطقى يدعوة لعدم العمل بجد حتى يفقد رجال المخابرات الأمل فى أن يمدهم بمعلومات هامه ويقرروا عودته , إلا أن تفانيه فى العمل يعطينا دلاله أنه كان يعمل لصالح مصر , لم يكن يعمل للمال أو للشهرة أو النفوذ , يكفى أن جنازته لم يسر فيها إلا عدد محدود من الأفراد , ويكفى أنه لم يصبح شهيرا إلا بعد وفاته أى أنه لم يكن يسعى لذلك على الإطلاق .
وقرر الهجان أن يكتب مذكراته , وأودعها لدى محاميه , على أن يتم تسليمها لزوجته بعد وفاته بثلاث سنوات حتى تكون قد إستعادت رباط جأشها ولديها القدرة على أن تتماسك وتتفهم حقيقه زوجها الذى عاش معها طوال هذة السنوات الطوال .كان على الطير أن يواصل التحليق إذن، بعيداً عن وطنه، وأن يحمل حتى آخر العمر جنسية (جاك بيتون)، اليهودي الإسرائيلي السابق، ورجل الأعمال الألماني المحترم، الذي نجح في إقامة مشروع نفطي كبير في (مصر)، ظلّ يزهو به، حتى آخر لحظة في حياته، ويروي في مذكراته كيف حصل على امتياز التنقيب عن البترول المصري، في عام 1977م، ليعود أخيراً إلى (مصر)، التي عشق ترابها، وفعل من أجلها كل ما فعله..
وفي نهاية مذكراته، يتحدَّث (رفعت الجمَّال) عن إصابته بمرض خبيث، وتلقيه العلاج الكيمائي، في أكتوبر1981م، وتفاقم حالته، ثم يبدي ارتياحه، لأن العمر قد أمهله، حتى أكمل مذكراته، وأن زوجته وابنه (دانيال)، وابنته بالتبني (أندريا) سيعرفون يوماً ما حقيقته، وهويته، وطبيعة الدور البطولي الذي عاش فيه عمره كله، من أجل وطنه.
وقد كتب "الجمال" وصيه تفتح فى حال وفاته , وكان نصها كالتالى :
"وصيتى. أضعها أمانة فى أيديكم الكريمة السلام على من اتبع الهدى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا لله وإنا إليه راجعون لقد سبق وتركت معكم ما يشبه وصية، وأرجو التكرم باعتبارها لاغية، وهأنذا أقدم لسيادتكم وصيتى بعد تعديلها إلى ما هو آت: فى حالة عدم عودتى حيا أرزق إلى أرض الوطن الحبيب مصر أى أن تكتشف حقيقة أمرى فى إسرائيل، وينتهى بى الأمر إلى المصير المحتوم الوحيد فى هذه الحال، وهو الإعدام، فإننى أرجو صرف المبالغ الآتية:
1- لأخى من أبى سالم على الهجان، القاطن.. برقم.. شارع الإمام على مبلغ.. جنيه. أعتقد أنه يساوى إن لم يكن يزيد على المبالغ التى صرفها على منذ وفاة المرحوم والدى عام 1935، وبذلك أصبح غير مدين له بشيء.
2- لأخى حبيب على الهجان، ومكتبه بشارع عماد الدين رقم...، مبلغ... كان يدعى أنى مدين له به، وليترحم على إن أراد
3- مبلغ... لشقيقتى العزيزة شريفة حرم الصاغ محمد رفيق والمقيمة بشارع الفيوم رقم .. بمصر الجديدة بصفة هدية رمزية متواضعة منى لها، وأسألها الدعاء لى دائما بالرحمة.
4- المبلغ المتبقى من مستحقاتى يقسم كالآتى:
نصف المبلغ لطارق محمد رفيق نجل الصاغ محمد رفيق وشقيقتى شريفة، وليعلم أننى كنت أكن له محبة كبيرة.
- النصف الثانى يصرف لملاجئ الأيتام بذلكك أكون قد أبرأت ذمتى أمام الله، بعد أن بذلت كل ما فى وسعى لخدمة الوطن العزيز، والله أكبر والعزة لمصر الحبيبة
إنا لله وإنا إليه راجعون
أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله "
ومهما نشر اليهود من قصص وأكاذيب , يكفينا فخرا أن عميلا مصريا واحدا إستطاع صفع إسرائيل طيله 18 عاما كامله من الخداع , ولا يسعنا بعد كل ما قرأناة وسمعناة إلا أن نقرأ الفاتحه ترحما على روح الفقيد "رفعت على سليمان الجمال" المصرى المسلم الذى إستطاع الوصول لعرين الأسد والخروج بسلام منه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
عبر عن رأيك